حالياً يتابع معظم سكان العالم بترقب ما ستؤول إليه الأوضاع في الصراع الروسي/الأوكراني، ولا عجب في ذلك، فالأزمة بين روسيا أكبر مصدّر للغاز والمغذيات الزراعية وثاني أكبر مصدّر للنفط، وبين أوكرانيا التي هي من أهم سلال الغذاء في العالم، والمعبر الرئيسي للنفط والغاز إلى وسط وغرب أوروبا. ألقت هذه الأزمة بتبعاتها الاقتصادية تحديداً على معظم الدول الأوروبية حتى الآن، فشاهدنا زيادة في أسعار النفط والغاز إلى أوروبا، وكذلك المواد البتروكيمياوية والمغذيات الزراعية.

ولا زلت أتابع وأنا أكتب هذا المقال سلسلة العقوبات التي فرضت وتفرض على روسيا وانسحاب شركات النفط العالمية من العمل في روسيا منها شركة النفط البريطانية (بي بي).

وفق المنظور، أكاد أجزم بأن هذه التبعات رغم سرعة انتشار دائرتها إلا أنها ستؤثر على كل اقتصادات أوروبا.

لكنّ المؤكد أن هذه الأزمة خلقت ثلاثة تحديات رئيسية سيطول أمدها حتى نهاية هذا العقد إن لم يكن إلى ما أبعد منه أيضاً. التحدي الأول هو الذي يواجهه مصدّرو النفط ومستهلكوه على حدٍ سواء في حالة عدم اليقين بشأن إمكانية استقرار أسواق النفط، فقد رأينا كيف ارتفع سعر برميل برنت الخميس الماضي مباشرة بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

في الوقت ذاته جاءت التطمينات الروسية لعملائها باستمرارية الإمدادات كالمعتاد دون تغيّر في سلامة خطوط وأنابيب النفط والغاز والتي ساعدت على كبح جماح هذه القفزة لفترة محدودة فقط، ونحن على أمل أن يأخذ الحوار السياسي مجراه لإنهاء هذه الأزمة بالغة الحساسية.

وفي أغلب الظن أن العالم لن يغامر بأي عملية ضد روسيا وهي التي يعتمد عليها العالم في إنتاج 33% من غذائه وطاقته.

هذا التحدي أقض مضاجع الدول الصناعية الكبرى التي لجأت للسحب من المخزونات وتطمين العملاء بأن الوضع لا يزال تحت السيطرة، وهي تراقب نتائج اجتماع مجموعة أوبك بلص التي من المفترض أنها اجتمعت أمس الأربعاء الثاني من مارس، للبت في شأن زيادة الإنتاج من عدمه.

والمرجّح أن أوبك بلص التي تضم أيضاً روسيا لن تجري أي تغيير على خطتها التي تم إقرارها مسبقاً بزيادة 400 ألف برميل شهرياً، لأن أي تغيير في هذا التوجه قد يؤدي إلى خلاف يزيد الوضع تعقيداً ما قد يرفع الأسعار بسرعة الصاروخ وهو ما لا يريده الأمريكيون حتماً، فمواطنوهم يعانون الأمرّين بارتفاع سعر وقود السيارات في الولايات المتحدة إلى مستوى تاريخي عند 4 دولارات للجالون، ما يضع ضغطاً كبيراً على الرئيس بايدن قبل الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل.

في حين قد يؤكد أي ارتفاع يطرأ تلك الفكرة النمطية عند الأمريكيين بأن الزيادة في أسعار الوقود مرتبطة دائماً بالرؤساء الديموقراطيين، وهو ما حدث في عهد الرئيس السابق أوباما بعكس خلفه الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترمب.

أما التحدي الثاني «صناعة الغاز» وهو ما أعتقد أنه سيكون لمصلحة نمو أسواق الغاز الطبيعي عالمياً. فالأزمة الروسية-الأوكرانية ستكون الدافع نحو التحوّل العالمي لتبني الغاز، ووقف تقييد استثماراته وتطوير تقنياته أكثر من ذي قبل لأسباب عديدة، أهمها أن الولايات المتحدة تطمح لصدارة العالم في إنتاج الغاز الطبيعي في 2025، ولديها الإمكانيات، كما أنها تتطلع للسوق الأوروبي بنهم لتعويض أي نقص قد يحصل بسبب الجفاء الأوروبي لروسيا.

كما أن الصين عزّزت اتفاقياتها مع روسيا بداية هذا العام لاستمرار ضخ المزيد من الغاز عبر خطوط الأنابيب التي تربطها معها. بالإضافة إلى ذلك نمو الغاز في السعودية التي أعلنت هذا الأسبوع عن خمسة حقول من الغاز بقدرة إنتاج يومية 100 مليون قدم مكعبة قياسية، وهو ما قد يضاعف مخزون الغاز الطبيعي لدى السعودية إلى أكثر من 600 تريليون قدم مكعبة قياسية لتحتل الوصافة بعد الولايات المتحدة في عام 2025 إذا مضت الأمور وفق البيانات المعلنة.

إن ارتباط الولايات المتحدة بأوروبا عن طريق زيادة حصتها في سوق الغاز الطبيعي (كما أتوقع) سوف يساعد على ازدهار الصناعات البتروكيميائية في أوروبا، ويوفّر حلولاً أقل انبعاثاً للكربون على المدى الطويل. كما أن أثر هذا التوسع الأمريكي سيعزز أكثر تقنيات الغاز ويضفي على الغاز صبغة (صداقة البيئة)، حيث يميل الأوروبيون لتصنيف الغاز الطبيعي إلى أحد المصادر الخضراء رغم بعثه للكربون. أما التحدي الثالث فهو ما صرّح به جون كيري مبعوث الرئيس الأمريكي للمناخ، بأن انشغال العالم بالصراع الروسي/الأوكراني سيقلل من تركيز الدول على خططها في سبيل الحياد الكربوني والوصول إلى الحد من مشكلة التغير المناخي.

وهو في الحقيقة ما نراه الآن، فالأمريكيون والأوروبيون بدأت تتعارض مصالحهم مع حلول مشكلة المناخ. في الحقيقة أرى أن هذا التحدّي سيؤسس لمنهج العقلانية بعيداً عن السياسة لحل مشكلات المناخ، وأهم الخطوات في هذا المنهج هي تعزيز وتطوير تقنيات إلتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه CCUS وتبني فلسفة الاقتصاد الدائري للكربون الذي طرحته السعودية، واتفقت عليه دول مجموعة العشرين قبل عامين في الرياض.

وفي ظل هذه التحديات الثلاثة، أتمنى أن تنتهي الأزمة الأوروبية باتفاق سياسي مقنع وألا يطول مداه. لكنّ أوروبا بالتأكيد ستأخذ الدروس المستفادة من هذا الصراع بعيداً نحو مزيد من الاستثمارات في مجال النفط والغاز التي كانت تعارضها. وأيضاً نحو تطبيق تقنيات لقط الكربون واقتصاده الدائري وبلا شك الهيدروجين، حيث سيكون الحل السحري للقارة العجوز.