عندما وقعت اتفاقية باريس عام 2015، بدأت الجماهير تتساءل عن حقيقة أهداف خطة مواجهة أزمة التغير المناخي، وهل هي بالفعل من أجل حماية البيئة، أم أن أوروبا لديها أهداف سياسية من وراء الاتفاقية؟! وكانت التساؤلات تطرح بالتوازي مع حملات إعلامية غربية من أجل تشنيع مصادر الطاقة التقليدية كالنفط والغاز والفحم الحجري، ووصفها بأنها السبب الرئيس في أزمة التغير المناخي. فأصبح الرأي العام العالمي مشحوناً تجاه تلك المصادر. الشحن لم يكتف بذلك بل حتى وصل إلى مراحل عليا من الانحياز المنطقي، وتطويع الأرقام والنتائج العلمية لخدمة هذا المنطق.

في الحقيقة لن أشعر بالرضا عن نفسي إن قلت إن أزمة التغير المناخي مفتعلة، بل هل أزمة موجودة منذ بداية الثورة الصناعية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر، وتصاعدت بالتوازي من رخاء الإنسان واستقراره وتشكل نموذج الاقتصاد العالمي وزيادة معدلات متوسط العمر للإنسان، ما أدى بالتالي إلى زيادة الأنشطة البشرية المولّدة للكربون.

إلا أن أزمة التغير المناخي ليست كما الآن الإعلام الغربي وحتى الرأي العام الذي تشكل نتيجة عنه. فالعلم يقول إن كوكب الأرض بحاجة إلى 50 مليار طن أخرى من غاز ثاني أكسيد الكربون لترتفع درجة حرارته درجة مئوية واحدة وهو الشيء غير الممكن خلال هذا القرن وحتى 2122 أي بعد مائة عام من الآن. على الأقل هو بحاجة إلى مضاعفة عدد سكان العالم وصولاً إلى 14.5 مليار نسمة.

لكن في محاولة لتبسيط (لماذا كل هذا الضجيج الأوروبي؟) فإننا سنقف عند ثلاثة محددات رئيسة ترتبط مباشرة بالأمن الجيوسياسي الأوروبي. سياسياً، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انهار الاقتصاد الأوروبي، وازدهر الأمريكي ،وأصبحت الولايات المتحدة الحليف الاقتصادي الأكثر نفوذاً في أوروبا. واستمر الحال خلال الحرب الباردة حتى انهيار الاتحاد السوفييتي وأنظمة أوروبا الشرقية الشيوعية في 1990.

أما المحدد الاقتصادي، فبعد هذا العام انفتحت روسيا على الغرب الرأسمالي الليبرالي مستخدمة منهجها الخاص في بناء قوتها الاقتصادية تدريجياً، ورغم أن الاقتصاد الروسي لا يمثل أكثر من 2% من إجمالي الاقتصاد العالمي، فإنه نجح خلال هذه الفترة في تعزيز نفوذه الاقتصادي في أوروبا حتى أصبح المورد الرئيسي للطاقة بنسبة 50%.

من الناحية الأمنية، كان حلف الناتو قد تشكل في 1949 من أجل تحييد خطر أوروبا الشرقية الشيوعية واجهه حلف وارسو الذي انتهى بسقوط جدار برلين، إلا أن صعود القوة الروسية أصبح مهدداً أساسياً لأوروبا التي فهمت النوايا الروسية بقيادة فلاديمير بوتين من أجل إعادة بناء الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى من جديد.

لم تتوان الولايات المتحدة في تعزيز تلك المواجهة بإعطاء المبرر لروسيا لغزو أوكرانيا من خلال التلميح بضمها إلى حلف الناتو، وأيضاً تعزيز القدرات العسكرية النوعية التي تشكل خطراً أمنياً على موسكو. لم تجد روسيا أمامها خياراً سوى قطع الطريق والدخول إلى أوكرانيا.

كان هذا تماماً ما كانت تريده الولايات المتحدة لوقوع الحدث الذي تريد به أن تبعد اليد الروسية نهائياً عن أوروبا.

الآن في أسواق الطاقة نشاهد كيف ازداد المتشددون تشدداً ضد مصادر الطاقة التقليدية، بل إن جنونهم يدفعهم إلى اعتبار الغاز الطبيعي (الكربوني) مصدراً أخضر للطاقة، وهو ما فعلته أوروبا بالفعل.

فالولايات المتحدة الآن ستزيد ضخ الغاز المسال بأكثر من 15 مليار متر مكعب إلى أوروبا بنهاية العام الجاري حيث سيرتفع الطلب الأوروبي من الغاز الأمريكي إلى أكثر من 50 مليار متر مكعب وصولاً إلى 2030 بهدف معلن وهو استبدال الغاز الروسي بالأمريكي.

أوروبا ستحاول الحصول على حصص إضافية من الغاز من قطر ومن شمال أفريقيا لكنها لن تستطيع التخلي عن الغاز الروسي قبل نهاية 2027 لأسباب فنية.

هذه المحددات توضح أن الخمس سنوات المقبلة ستكون حاسمة في مستقبل الطاقة، حيث ستسارع أوروبا- حتماً- للتخلي نهائياً عن النفط وبناء المفاعلات النووية بأكثر من 10 مفاعلات نووية جديدة على أن يكون الهيدروجين الأخضر والغاز المسال هما المصادر الرئيسية.

في حين أن روسيا ستعتمد على تحالف «أوبك+» أكثر من أي وقت مضى، وعلى السوقين الصيني والهندي المتطورين بقوة لشراء نفطها، وفي ذات الوقت لن تغامر بأن تضع نفسها تحت رحمتهما. وبين هذا وذاك، لن تسمح الولايات المتحدة لأي قوة غيرها أن تبسط نفوذها على أوروبا.

لهذا فإن الكرة في ملعبنا بالشرق الأوسط لتبني تحالف يضم صنّاع الغاز عالمياً، وآخر للهيدروجين. فسوق الهيدروجين قادم لا محالة. فمن يصل إلى الإنتاج الأكثر كفاءة سيكون له كلمة الفصل الأولى في اقتصاد الطاقة الجديد.