في مقابل تناغم أوبك يبدو أن الرئيس الأمريكي بايدن، الذي أعاد الولايات المتحدة لاتفاقية المناخ وأعلن قبل عام من الآن التزامه التام بخفض انبعاثات الكربون الأمريكية بنسبة 50% بحلول العام 2030م، أنه يواجه أزمة حقيقة في طريقه نحو الوفاء بهذا الالتزام، خصوصًا مع بروز تحوّلات جيوسياسية واقتصادية ألقت بظلالها على الغرب. الأسبوع الماضي ارتفعت أسعار الديزل في أمريكا لتبلغ متوسط 5.3 دولارات للجالون، فيما بلغت أسعار الغازولين 4.3 دولارات للجالون، وهي أرقام تاريخية لم يسبق للولايات المتحدة الأمريكية أن عهدتها حتى في فترة أوباما الرئاسية. وهو ما يرسّخ في عقل الناخب الأمريكي فكرة ترابط ارتفاع أسعار الوقود مع الرؤساء الديمقراطيين.

تواجه الولايات المتحدة حاليًا أزمة تضخم متزايدة، كما لم تنجح خطة المخزون الإستراتيجي للنفط بمعدل مليون برميل يوميًا بخفض الأسعار، خصوصًا مع قرب موعد الانتخابات النصفية، فيما يتوقّع أن تؤثر أزمة الوقود على شعبية الرئيس الأمريكي الذي لم يقم حتى الآن بتنفيذ وعوده. إن التحدّي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة هو بطء وتيرة الاستثمارات في الطاقة البديلة والمتجددة من ناحية، وعدم موافقة الكونغرس الأمريكي على مبلغ 550 مليار دولار لدعم خطة بايدن نحو التحول النظيف، بعيداً عن النفط من ناحية أخرى. في الوقت ذاته، تقوم الولايات المتحدة بوضع اللمسات الأخيرة على مفاعلها النووي فوغتيل (Vogtle) رقم 3 في الربع الثالث من هذا العام والمفاعل رقم 4 في الربع الثاني من العام القادم بكلفة تجاوزت 25 مليار دولار على أمل أن يغطي نسبة 50% من مصادرها النظيفة للطاقة حتى 2025م، بمقدار 19.5 مليون ميغاواط للساعة، غير أن استدامة مصادر المعادن المستخدمة في المفاعلات النووية ودرجات التخصيب سيكون تحديًا حقيقًا لاستدامة هذا المصدر، ناهيك عن مشكلات النفايات النووية المرتبطة بها، إلا أن الشركة المشغلة (جورجيا باور)، أعلنت أن «مفاعلاها عاليا الأمان»، وهما اللذان أفلس المقاول الذي أنشأهما وتعطل إنشاؤهما لفترة طويلة تجاوزت 30 سنة.

الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن في داخل الولايات المتحدة نفسها ينقسم مجلس الشيوخ بين مؤيدين للصناعات النفطية وبين معادين للنفط وصناعته، وبين هؤلاء وهؤلاء يجد الرئيس الأمريكي تحديًا كبيرًا في المضي قدمًا في خططه. وهو ما اضطر إدارة بايدن إلى خفض دعم الاسثتمارات في الطاقة النظيفة، وإيقاف أكثر من 300 مشروع للطاقة الشمسية الأسبوع الماضي، وهو بلا شك سيؤدي إلى عدم تمكنها من الوصول لمستهدفاتها بحلول 2030م، في حين توعّد الرئيس بايدن بأنه لن يسمح لروسيا باستخدام منتجاتها السلعية كسلاح ضد أوروبا، وأنه سيفرض عقوبات على روسيا تؤدي إلى تحجيم قدرات موسكو كما قال.

بين هذا وذاك، وجدت أوروبا نفسها في مشكلة عويصة! لقد أثبتت العقوبات التي فرضتها على موسكو فشلها الذريع بحسب تقرير (CERA)، الذي نشر قبل أيام، حيث وضّح أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة هي أكبر الدول المستوردة للنفط والغاز والفحم الروسي منذ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في الوقت ذاته يصرّح القادة الأوروبيون بأنهم ينوون التخلي تمامًا عن الاعتماد على النفط الروسي بحلول الصيف هذا العام. يرى المتابع حالة التخبط الشديد التي تنتاب الدول الغربية في إدارة ملف أزمة الطاقة، وكيف أنها تسيطر إعلاميًا فقط على الأزمة في محاولة تغيير الوضع بسياسات متضاربة غير عقلانية، ما يؤكد أن الغرب فقد فعلاً قدرته على إدارة أسواق الطاقة. إن العالم اليوم يقف على مفترق طرق مع خارطة طريق الحياد الكربوني، إما بتأجيل مستهدفاتها، أو إعادة رسم الخطط بطريقة أكثر مرونة وقابلية للتنفيذ، واضعة نصب عينيها أهمية أن يكون النفط جزءًا لا يتجزأ من خليط الطاقة، كونه المستدام الأنظف والأكثر موثوقية وأمان.

وبالرغم من هذه الطريق الكؤود التي اختارها الغرب تظهر تقاريرهم معلومات غير موضوعية تمامًا، كما ظهر تقرير مستقبل الطاقة الذي نشرته ماكينزي مؤخرًا بأن ذروة الطلب على النفط ستكون بين العامين 2024-2027م، اعتمادًا على إحلال «الطاقة الكهربائية» مكان النفط، على أن تتولى الرياح والطاقة الشمسية هذا الدور.. والحقيقة التي لا مناص منها أن كلفة إنتاج الطاقة الكهربائية من الطاقة الشمسية والرياح لن تكون أكثر استدامة ومرونة، باعتبارات تعثر استثماراتها التي ذكرناها قبل قليل، كما أن الغرب لا يملك مصادر المواد الأولية في تلك الصناعة، حيث تتحكم الصين في سوق إنتاج زعنفات الرياح وخلايا الطاقة الشمسية وبطاريات التخزين وموارد الليثيوم.

بقي أن نعرف أن الوضع الغربي الآن هو صعب جدًا ما لم تعد باريس النظر في بنود اتفاقيتها، ومحاولة تجنيد العلم والبحث بكل حيادية لكشف الأثر الحقيقي لمشكلة التغير المناخي والاستفادة القصوى من النفط الذي كان ولا يزال المرافق الدائم لرخاء الإنسان.

لا أشك أن أول رئيس جمهوري قادم سوف يتخذ القرار المنطقي وينسحب من اتفاقية المناخ، هي بالتأكيد ليست في صالح الأمريكيين ولا في صالح العالم، والأذكياء فقط هم من وازنوا بين مصالحهم ومصالح العالم، كما تفعل دول أوبك حاليًا.