بدأت الصورة المستقبلية لأسواق الطاقة والبتروكيماويات في العام القام 2023 بالتشكل، وبدأت تتضح ملامح الآثار الاقتصادية والجيوسياسية على الأسواق، طبعًا ما لم يتفش وباءٌ جديد يقود العالم مرة أخرى إلى الإغلاقات -لا سمح الله- أقول هذا لأن الوباءات أصبحت أحد المخاطر الاقتصادية المحتملة التي توضع في الاعتبار عند تقييم المخاطر ووضع خطط الأعمال.

بشكل عام سيستمر الاقتصاد الأمريكي بالنمو وقيادة إجمالي الناتج المحلي العالمي بنسبة 3.1% مع مطاردة صينية وثيقة، سيستفيد الأمريكيون من العقوبات المفروضة على الروس وسيستمر النمو في الغاز الصخري الأمريكي لتحقيق نتائج فوق المتوقع في حين ستوثّق بلاد العم سام مكانتها كأكبر مصدّر للغاز الطبيعي في 2023م.

شاهدنا هذا الأسبوع ارتفاع أسعار الغاز لمستويات هي الأولى منذ 14 عامًا لتصل إلى 10 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، نتيجة الطلب المتزايد من أوروبا وآسيا، وهذا ما سيزيد الضغط أكثر على كلفة الطاقة، ويؤدي إلى رفع أسعار المغذيات الزراعية، وبالتالي أسعار الغذاء في النهاية.

وفي قطاع البتروكيمياويات الأمريكي، أدى ارتفاع تكاليف الغاز والإيثان إلى أن تحوّل الشركات إلى البيوتان ليصبح أكثر المواد الأولية تفضيلاً للتكسير، مما يؤدي إلى زيادة إنتاج البنزين من أجهزة التكسير البخارية، حيث ينتج تكسير البيوتان المزيد من البنزين مقارنة بتكسير الإيثان.

وبالرغم من هذا فإن أسعار كيميائيات البنزين ومشتقاتها بدأت بالتراجع في أمريكا هذا الشهر، مثل الستايرين والفينول والنايلون والميثلين ثنائي أيزوسيانات، نتيجة انخفاض الطلب بسبب التضخم الذي أثر على تراجع أسواق البناء والإنشاءات، وهو السوق الرئيسي الذي تستخدم فيه هذه المنتجات بصورتها النهائية.

ويستخدم البنزين أيضًا لإنتاج عدد من المواد الوسيطة التي تستخدم في صنع البوليمرات والمذيبات والمنظفات، ومن بين المنتجين الرئيسيين للبنزين في الولايات المتحدة: إكسون موبيل، ماراثون بتروليوم، شل، فلينت هيلز ريسورسز، شيفرون، سيتجو، ليونديل باسيل، فاليرو وتوتال.

ومن المتوقع أن يستمر هذا الضغط على قطاع البتروكيماويات الأمريكي خلال العام القادم ما لم تحدث انفراجه سياسية تعالج المشكلة، ولا أتوقع أن يؤتي قانون خفض التضخم الذي وقّعه بايدن الأسبوع الماضي نتائج لمصلحة قطاع الطاقة التقليدية، بل سيتم تكريسه لتسريع بناء ممكنات الطاقة المتجددة وزيادة الاعتماد عليها جزئيًا، غير أن مشكلة الاستدامة تبقى معضلتها الرئيسية مع اعتبار ضعف الموارد المتعلقة بخام الليثيوم والخامات المعدنية الداخلة في إنتاج المواد الأولية لتقنيات الطاقة المتجددة.

في أوروبا، سيكون هناك ضغط هائل مرتبط بأزمة الطاقة، حيث انخفضت نسبة التوقعات بالنمو من 2.1% إلى 1.8% العام القادم، وما لم تنخفض حدة الصراع شرق أوروبا، فلن يكون الحال أفضل مما هو عليه اليوم، والمعطيات الحالية تؤكد ذلك، فقد خفضت شركات الأسمدة الأوروبية أكثر من 65% من قدرتها الإنتاجية للأسمدة والمغذيات الزراعية مؤقتًا نتيجة أزمة الغاز مع روسيا.

تأتي على رأسها شركة الكيميائيات البولندية (Grupa Azoty)، وشركة (Yara) و(OCI) وSKW) Piesteritz) في ألمانيا، و(Azomures) في رومانيا، و(Fertiberia) في إسبانيا، وعلى الرغم من أن هذه الفترة هي فترة حصاد زراعي، إلا أن هذا الانخفاض يأتي أكبر بكثير من الانخفاضات في الفترات السابقة، وهو دليل أن أوروبا ستحاول الخروج بأقل الخسائر من هذه الأزمة مع تقبل مستويات تضخم وأزمة ركود متوقعة هذا العام، مع وجود إمكانية لتخلي أوروبا نهائيًا عن صناعة الأسمدة والتحول إلى استيرادها، وتعتبر الأسمدة صناعة عالية الاستهلاك للطاقة، وتستخدم الغاز الطبيعي كمادة وسيطة رئيسية لإنتاج الأمونيا واليوريا والنترات.

وهناك في آسيا، سيعمد الصينيون لتسريع نموهم الاقتصادي المتوقع عند 5% العام المقبل على أن تكمل بناء منظومتها الكبرى لشبكات الطاقة بين غرب وشرق الصين، لن يكون مفاجئًا إذا استمرت الصين بحرق الفحم الحجري لتلبية الطلب الموسمي على الطاقة، كما أن الولايات المتحدة ستستمر بتصدير الفحم إلى الصين كأحد أهم الموردين وفقًا للاتفاقية الموقع بداية العام الماضي، والتي تستمر لمنتصف 2023م.

روسيا ستواصل الضغط على أوروبا لرفع العقوبات والرضوخ للمفاوضات السياسية، حيث لا توجد حلول دبلوماسية قد تحل الأزمة على افتراض عدم وجود تحوّلات على الأرض قد تغيّر التمكّن الروسي على الصراع، فها هي غاز بروم الروسية تحذّر قبل أيام من أن أسعار الغاز سترتفع بنسبة 60% خلال شتاء هذا العام لتقفز أسعار الغاز مباشرة بنسبة 25%.

وبين هذا وذاك من الواضح أن أوبك بلص تحافظ على رباطة جأشها بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها في العامين الماضيين، وتستعد لتوثيق هذا التحالف الذي سيلعب دورًا كبيرًا في ضبط إيقاع الاقتصاد العالمي خلال العام القادم والمحافظة على استدامة الإمدادات بشكل عادل للمنتجين والمشترين.

وستتجه أنظار العالم إلى منطقة الخليج العربي كبديل ناجح لمنتجات الأسمدة والمغذيات الزراعية والغاز الطبيعي والهيدروجين؛ ولهذا فإن المطلوب من أرامكو السعودية والشركات الوطنية الأخرى هو استثمار هذه الفرصة وزيادة منتجات الطاقة المتجددة والنطيفة والمنتجات منخفضة الكربون لتكون البديل المستدام والأنجح للعالم خلال هذا العقد القادم مع فرصة زيادة الاستثمار في الطاقتين التقليدية والمتجددة.