الحداد.. مرة يطرق الصلابة الخرساء. ومرارا يخبط على جمر اللغة، فتخرج عرائس النار إلى زفافها الهرطوقي. ثمة شوارع وأزقة وأقبية وأساطير تتفتح على مشاهدها الدموية وفي الوسط، في وضح النهار أو عتمة الليل، يرقص الكائن «المذل المهان» من الجوع والألم والقهر والغضب على إيقاع التعاويذ والشتائم واللعنات.

إنها الصيغة «التآمرية» الدائمة الاقتراح على القصة العربية. وزكريا تامر ما زال، ولما يقارب نصف قرن من الزمن، يضخ للأدب العربي نسيجاً خاصاً من الكتابة القصصية، وهو بقدر ما كان متمرداً وقاسياً وضارياً، بقدر ما مضى بعيداً في الاحتراف الفني، حتى ليبدو وكأنه قد تمكن من حبس العاصفة ضمن إطاره.

إنه لمن المدهش أن ترى الأدب العربي اليوم، خاصة في فن القصة والرواية لا تحده مدرسة ولا تعينه جهة ولا تأسره أساليب أو أشكال. ففي غمرة البحث نجد أنفسنا ضائعين في وصف هذا الصخب الذي يتجسد في آلاف الألوان والأشكال الإبداعية والتعبيرية وفي عدد لا متناه من الخيارات الفنية سرداً وإنشاء وتركيباً.

كل هذا مدهش حقاً، حينها ننتبه فجأة، أنه تحقق في زمن قياسي لا يتعدى الخمسة عقود، وكان في طليعة هذه العقود أفراد قلائل، لم يكونوا رواداً بالمعنى الرائج للكلمة، بل مؤسسين وبادئين. ومن بداياتهم، من بذورهم وعناصرهم تسامقت نباتات متنوعة ومتشعبة وهائلة التعدد. ولكن كان زكريا تامر في هذا السياق، أحد المؤسسين الملعونين، الذين نشروا إمكانات القصة على الجميع في مثالات رائعة، فإن نتاجه يستعاد دوماً، ويحضر كذلك في كل جدل فعلي حول فنية القصة العربية المعاصرة، ولذا فإن حضوره اليوم ليس من قبل التذكر بقدر ما هو استمرار لنقاش يدور راهنا ويعمل حول مستقبل الكتابة الأدبية العربية وجهوزيتها المشاركة العالم في تحقيق حداثة الإنسان.

صدور مجموعته القصصية الكاملة (ربيع في الرماد - دمشق الحرائق - النمور في اليوم العاشر - الرعد - صهيل الجواد الأبيض - نداء نوح) يؤكد أن (زكريا تامر) أحد أكثر الأقلام مدعاة للحيرة والجدل والقلق والتساؤل المواكب لهذا الإرث الذي جدد نفسه في زمن يعز فيه التجديد والابتكار.

1995*

* كاتب وشاعر ومسرحي سوري «1934 - 2006»